أفضل مقالة فلسفية حول مشكلة العلاقة بين العلم والفلسفة
العلاقة بين الفلسفة والعلم |
لطالما كان الإنسان كائنا عاقلا، وهي الخاصية التي تميزه عن باقي الكائنات، ومادام يتملكه نوع من الفضول، فإن هذا العقل يمنحه الجرأة للبحث عن المعرفة دون توقف، لأنه يعيش في عالم مليء بالظواهر والأحداث التي يجهل حقيقتها، وبذلك فهو منذ القديم يسعى إلى إدراك حقيقة ذاته وحقيقة العالم والظواهر المحيطة به، محاولا بذلك تجاوز حالة الجهل التي ولد بها، وهكذا، تنوعت الأبحاث وتعددت المجالات المعرفية، من أهمها البحوث المتعلقة بالفلسفة وأخرى متعلقة بالعلم، والتي تطرح مشكلة أساسية تتعلق بطبيعة العلاقة بينهما، نظرا لوجود العديد من الفروق الأساسية بين هذين النمطين من التفكير، وبالتالي يمكن طرح التساؤلات : ما الفرق بين العلم والفلسفة؟ وبصيغة أخرى إذا كانت الفلسفة والعلم مجالين معرفيين مختلفين هل هذا ينفي وجود علاقة تكاملية بينهما؟.
محتويات الموضوع
- أفضل مقالة فلسفية حول مشكلة العلاقة بين الفلسفة والعلم.
- أوجه الإختلاف بين الفلسفة والعلم.
- أوجه التداخل والتشابه بين الفلسفة والعلم.
- حل لمشكلة العلاقة بين الفلسفة والعلم.
أوجه الإختلاف بين الفلسفة والعلم
للإجابة عن التساؤلات السابقة سنحاول في البداية التطرق إلى أوجه الاختلاف الموجودة بين الفلسفة والعلم، فالفلسفة تختلف عن العلم من حيث التعريف، فإذا كانت الفلسفة على حد قول أرسطو "بحثا عن الوجود بما هو موجود"، أي أنها مجال معرفي عقلي نتوصل من خلاله إلى معرفة الأسباب والعلل الأولى للموجودات، بمعنى آخر، فالفلسفة هي نشاط ذهني يعبر عن القوانين العامة للوجود، أما العلم فهو مجموعة من القواعد والقوانين التي يتم من خلالها تفسير الظواهر ومعرفة العلاقات القائمة بينها، فالمعرفة العلمية هي معرفة ذات طابع عام، وهي معرفة موضوعية يمكن تعميمها على كل الظواهر المشابهة، كما يمكن التأكد من صدقها بالعودة إلى التجربة.
كما تختلف الفلسفة عن العلم من حيث الموضوع، فموضوع الفلسفة هو العالم المعقول والميتافيزيقي، فالفلسفة تتجاوز الظواهر المحسوسة، وتتعالى عليها، بمعنى أن الفيلسوف يكون هنا باحثا عن العلل الأولى للموجودات، ومتجولا في عالم إنساني عقلي لا يتمكن العلم من الوصول إليه مثل الأخلاق، الفضيلة، السعادة، الحرية... وهكذا فالفيلسوف ينظر بعين العقل إلى ما وراء الظواهر، ويبحث عن علل وجودها ومبادئ تجمع شتاتها، وهذا ما عبر عنه مين دوبيران بقوله :"كل الفلسفات مفارقة للعالم لأن الصيغة الفلسفية تتعامل مع ما هو ميتافيزيقي"، وبالتالي فالفلسفة لا تقتصر في دراستها على مواضيع محددة، وإنما هي شاملة لمختلف المجالات، وهذا ما عبر عنه مارتن هايدجر قائلا: "الفلسفة موضوع مترامي الأطراف"، أما العلم فموضوعه الطبيعة أي العالم المادي، فنقطة بداية العالم هو ملاحظة ما يوجد في هذا العالم من ظواهر جزئية محسوسة، يحللها ويقارن فيما بينها، ويحاول الكشف عن العلاقات الثابتة فيما بينها، سعيا إلى صياغة قوانين عامة تحكم الظواهر الطبيعية، وهكذا، فالعلم يختص في دراسته بالمواضيع المادية المحسوسة التي لها وجود عيني، وبالتالي تكون قابلة للدراسة التجريبية مثل علوم المادة الجامدة، وعلوم المادة الحية.
شاهد أيضا
ويكمن كذلك الاختلاف بين الفلسفة والعلم من حيث المنهج، فمنهج الفلسفة تأملي عقلي قائم على الاستنباط والاستنتاج، فموضوعات الفلسفة عقلية تحتم على الدارس التأمل أكثر من أي شيء آخر، فمادامت موضوعات الفلسفة ذات صبغة ميتافيزقية، فإن ذلك يقتضي اتباع طريق التأمل الفلسفي،أما موضوعات العلم فهي موضوعات ذات طبيعة حسية، فإنه يقتضي اتباع منهج علمي يقوم على المشاهدة والتجربة، وهكذا فمنهج العلم هو منهج استقرائي تجريبي قائم على أربع خطوات منهجية، وهي الملاحظة، الفرضية، التجريب ثم القانون، ويقصد بالملاحظة المشاهدة العينية للظاهرة، أما الفرضية فهي عبارة عن تفسير مؤقت للظاهرة، ثم التجريب وغرضه التحقق من صدق وصحة الفرضيات تحققا تجريبيا، أما القانون فهو يمثل التفسير الصحيح والنهائي للظاهرة المدروسة، وقد عبر كلود برنار عن قيمة هذا المنهج قائلا: "إن التجريب هو الوسيلة الوحيدة التي تمكننا من الإطلاع على حقائق الظواهر". إضافة إلى ذلك، فالفلسفة تختلف عن العلم من حيث طبيعة اللغة، فلغة الفلسفة هي لغة الألفاظ والكلمات الاصطلاحية، وهي لغة تختلف من مجتمع لآخر، وبالتالي فالفيلسوف في تأمله لمواضيعه وتعبيره عنها يستخدم لغة الألفاظ، أما لغة العلم فهي لغة الرموز الرياضية، والتي تتسم بالدقة، وهي لغة واحدة وكونية، وهو ما نجده بارزا في العلوم الفيزيائية والكيميائية.
ثم أن مجال الفلسفة يختلف على مجال العلم، فمجال الفلسفة هو الوجود الكلي للأشياء، فالدراسة الفلسفية شاملة ولا تقتصر على جزء معين من موضوعاتها، وبالتالي فالفلسفة تساؤل دائم عن المبادئ العليا التي يرتد إليها، وهذا ما عبر عنه أرسطو قائلا: "الفلسفة هي العلم النظري بالعلل الأولى للأشياء"، وهكذا، فالفلسفة تسعى إلى إدراك الأسباب والعلل الأولى والبعيدة، أما العلم فهو يسعى إلى الكشف عن العلل والأسباب القريبة والمباشرة للموجودات المحسوسة، ثم أنه يهتم بالجزئيات، لأن كل فرع فيه يقتطع لنفسه جزء يختص في البحث فيه والكشف عن قوانينه، فالفيزياء لها مواضيعها الخاصة كما للكمياء أيضا مواضيعها الخاصة، وبالتالي كل علم يهتم بدراسة مواضيعه دراسة جزئية يبحث فيها عن أسبابها القريبة والمتحكمة فيها، كالقول مثلا أن ارتفاع درجة الحرارة هو السبب المباشر لتبخر الماء، هذا أما لو كنا في الفلسفة لكلن البحث عن سبب الحرارة، وإذا تم تحديده سيتم البحث عن سبب ذلك السبب حتى الوصول إلى السبب الأول الذي ليس وراءه سبب آخر.
ولا ينبغي أن نغفل كذلك أن هناك اختلاف بينهما من حيث النتائج، فنتائج الفلسفة تثير الشكوك، وبالتالي فهي غير نهائية، بل قد تتسم بالتعدد والتناقض أحيانا، فهي تعبر عن وجهات نظر فردية، قائمة على النظر والتأمل العقلي، وخير مثال على ذلك هو موضوع الحرية الذي تتعدد حوله الأراء، وتختلف فيه النتائج، فهناك من يرى أن الإنسان كائن حر، وهناك من يرى أنه كائن مقيد باعتباره خاضعا لمجموعة من الإكراهات والحتميات، بل هناك من يجمع بين الرأيين، ويراه حرا في جوانب معينة ومقيدا في جوانب أخرى، لكن في مقابل ذلك فنتائج العلم تتسم بالدقة، على اعتبار أن البحوث العلمية موضوعية بعيدة عن كل صفات الذاتية، ولا أحد يستطيع أن يجادل في كون العالم اليوم ساده العلم التطبيقي سيادة لم يسبق لها مثيل، لأن التجريب أعطى لنتائج العلوم مصداقية أكثر، فالتجربة هي مصدر حقائقه ومعلوماته، وهكذا تمكن العلم من التغلغل في كل ركن أركان الحياة، وبالتالي فهو محل اتفاق وإجماع، فمظاهر وإنجازات العلم واضحة في وسائل النقل والمواصلات، وفي الصناعة والزراعة، وفي نشر الثقافة وأنواع الفنون، وفي ميادين العمل وساعات الفراغ.
أوجه التداخل والتشابه بين الفلسفة والعلم
رغم هذا الاختلاف الموجود بين الفلسفة والعلم، فهذا لا يعني غياب نقاط اتفاق وتشابه بينهما، بل هناك العديد من أوجه التداخل بين الفلسفة والعلم، لأن العلاقة بين الفلسفة والعلم هي علاقة حميمية منذ القدم، منها أنهما معا ينطلقان من صيغة استفهامية تحتاج بالضرورة إلى جواب، فالفيلسوف باحث دائم عن إجابات لأسئلته العقلية الميتافيزيقية من خلال التأمل والنظر العقلي، والعالم بدوره باحث دائم عن إجابات لأسئلته الحسية من خلال الإفتراض والتجريب. وبذلك فهما يلتقيان معا في الأسس المعرفية، أضف إلى ذلك، فالفلسفة والعلم ينتميان إلى إنتاجات الفكر البشري، فكلاهما تعبير عن مجهود فكري يبحث عن إمكانية قيام معرفة ما عن الوجود بمختلف أشكاله، بالرغم من اختلاف نظرتهما إلى الوجود، كما أنه لا يمكن للنتائج المتوصل إليها في هذين النمطين من التفكير أن تتأثر بالأهواء والغرائز ، بل هي نتائج تتأتى وفقا لقواعد منطقية.
إضافة إلى هذا، فهدف كل من الفلسفة والعلم هو هدف واحد، فكلاهما يسعى إلى الخروج من حالة الجهل والغموض نحو الحقيقة والصواب والوضوح، وبالتالي هناك سعيا مستمرا من طرفهما لمعرفة حقائق الظواهر والقوانين المتحكمة فيها، وبناء تفسيرات وحلول لمختلف القضايا التي تحيط بالإنسان، ذلك ما عبر عنه كانط قائلا: "كل العلوم والفلسفات تسعى للبحث عن الحقيقة لكنها تختلف في المنهج". كما أنه لا يجب أن ننسى أنهما معا يشكلان حلقة واضحة المعالم في تاريخ الفكر البشري بصفة عامة، فهما يمثلان مظهران من مظاهر تشكل الحضارة الانسانية، وهو ما عبر عنه ديكارت قائلا: "إن حضارة كل أمة إنما تقاس بمدى شيوع التفلسف فيها"، ومن هنا تتجلى بوضوح قيمة الفلسفة.
ولا يجب أن ننسى كذلك، أن كل من الفلسفة والعلم ينطلقان من أسئلة انفعالية تثير نوعا من القلق الفكري والتوتر النفسي، وهو ما نجده في قول أرسطو: "إن الدهشة هي التي دفعت الناس إلى التفلسف"، وفي نفس السياق يقول أفلاطون أن أصل الفلسفة هو الدهشة، وهكذا، فهما مجالين من اختصاص رواد الفكر -الفلاسفة والعلماء-، فكلاهما يتجاوز المعرفة السطحية العامية والساذجة، إلى التعمق في تحليل الظواهر والقضايا. وانطلاقا مما سبق، يمكن استخلاص العلاقة القائمة بين الفلسفة والعلم، والتي يمكن توضيحها في ثلاث مراحل أساسية:
في المرحلة الأولى كانت العلاقة بين الفلسفة والعلم علاقة اتصالية تكاملية، فالفلسفة قديما كانت تلقب بأم العلوم، على اعتبار أن كل العلوم نشأت في حضن الفلسفة، بمعنى أن كل العلوم هي بمثابة فروع فلسفية، فقد كان فيثاغوراس فيلسوفا ورياضيا، وقد كانت لأرسطو مؤلفات كثيرة علمية يتحدث فيها عن الحيوان وعن النبات وفي الطب وغيرها، أما في العصر الوسيط فقد اهتم الكندي بالرياضيات والطبيعة، كما كان ابن سينا فيلسوفا مشهورا ومن أشهر وأبرز علماء الطب في عصره، وهكذا اشتملت الفلسفة على كل العلوم، فكانت الفلسفة بهذا المعنى أم العلوم. وفي المرحلة الثانية شهدت العلاقة بين الفلسفة والعلم نوعا من التصدع والانفصال مع ظهور المنهج التجريبي في العصر الحديث، بحيث هنا بدأت العلوم تستقل عن الفلسفة بموضوعاتها ومنهجها، فاستقلت الفيزياء أولا على يد غاليليو غاليلي، وانفصلت بعدها الكمياء على يد لافوازييه، وهكذا بدأت تتحدد معالم تيار تجريبي جديد يفصل العلوم عن الفلسفة.
ثم في المرحلة الثالثة بدأت تتشكل معالم علاقة جديدة بين الفلسفة والعلم لم تكن معروفة سابقا، لأن الانفصال سبب ضررا لكليهما، وهكذا فقد حاول السواد الأعظم من فلاسفة العصر الحاضر، أن يقربوا بين الفلسفة والعلم وذلك في صيغة جديدة، تصبح فيها الفلسفة أكثر قربا من الواقع، وأوثق اتصالا بروح العلم، لذلك نجد غاستون باشلار يدعو إلى ضرورة الربط بينهما قائلا: "على الفيلسوف أن يكون على صلة بالتجارب العلمية، وأن يهتم العلماء بالمذاهب الفلسفية النقدية، لأن الإنفصال لن يكون في مصلحة أحدهما"، وهكذا نشأت فلسفة العلوم كآلية ابستمولوجية تخدم فيها الفلسفة العلم، باعتبارها دراسة نقدية لمبادئ العلوم وفروضه ونتائجه، فكانت علاقة الفلسفة بالعلم هنا، كعلاقة الناقد بالمبدع، فهي تقدم فحصا دقيقا لها، وهو ما عبر عنه لامارك قائلا:" كل علم يجب أن تكون له فلسفته فهو لا يتقدم إلا بها".
حل لمشكلة العلاقة بين الفلسفة والعلم
وفي اعتقادي الشخصي، يمكن القول أن علاقة الفلسفة بالعلم هي علاقة اتصال وتكامل، فالعلم في حاجة إلى الفلسفة، والفلسفة في خدمة العلم، فكما كانت الفلسفة في الماضي تضم في طياتها مختلف العلوم، باعتبارها أم العلوم، فلازالت إلى اليوم تقدم لها الأسس والمعايير، وهكذا يمكن أن نستنتج في الأخير كحل لمشكلة العلاقة بين الفلسفة والعلم، أن العلاقة بينهما هي علاقة اتصال وترابط، فرغم الاختلاف الحاصل بينهما من حيث الموضوع والمنهج، إلا أن هناك علاقة تداخل وتكامل بينهما، فللعلم دور جوهري في تجدد قضايا الفلسفة، فهي تغنيها بأبحاثها وموضوعاتها، وهو ما عبر عنه لويس ألتوسير قائلا: "لكي تولد الفلسفة وتتجدد لا بد لها من علوم"، كما أن الفلسفة تخدم العلم باعتبارها دراسة نقدية لمبادئ العلوم وفروضه، مما يعني أن النقد الفلسفي لمختلف العلوم ومناهجها يساهم في تقدم العلم معرفيا ومنهجيا.
اقرأ المزيد